مِن فوائد قراءة تراجم وسِيَر العلماء
قال الشيخ صالح آل الشيخ - حفظه الله -:
مِن عجائب الشافعي - رحمه الله - مما نختم بها المجلس:
أنه كان يتعاطى الفراسة.
والفِراسة - كما هو معلوم - ثلاثة أقسام: فراسة طبيعية، فراسة إيمانية . . إلى آخره تعلمونها في العقيدة. المقصود منها الفراسة الطبيعية التي يستدل بها مِن [الشكل] - شكل الوجه، أو شكل بعض البدن - على خفيِّ الصفات؛ يقول - مثلا -: هذا أعينُه حادة؛ فتدل على قوة ذكائه. هذه عينُه بارزة؛ عنده غباء ! بدون ما يصادفه. هذا مِشيته تدل على أنه مستعجل في أموره، هذا شكل جبهته يدل على كذا. هذا العلم موجود قديمًا في الناس، منه ما هو صواب، ومنه ما هو غلط.
الشافعي تعاطاه وذهب إلى اليمن ليدرس هذا العلم، ويأخذ كتبه. قال: فحصّلتُ كتبًا كثيرة فيه، وإذا فيها أنه إذا وُجدتْ خصلتان في المرء كان لئيمًا. وهو أن يكون صفتان - لن نذكر الصفات حتى لا تكون ممكن في بعض الناس ويكون لها أثر فيه -، يقول: فأخذتُها.
يقول: فلما رجعتُ إلى مكة، يقول: أتى بي الطريق .. - هو ودابته ومعه بعض الناس، ذكرها الشافعية في كتبهم الفقهية، وذكرها جمع في الرحلات وفي مناقب الشافعي؛ يعني قصة مشهورة - .
يقول: فأتاني في الطريق في الليل عنده مكان مهيأ للمسافرين. يقول: فلما رآني ظننتُ أنه يعرفني! يقول: فكرمني وأنزلني ورحَّب بي أعظمَ ترحيب، وأدخلني [منزلا] حسنًا وفراشا مريحًا إلى آخره. وأخذ دابتي: سأذهب بها إلى مكان الدواب، وسأعلفها الليلة. فأخبرته أني سأذهب غدًا. فقال: لو ما عجلت، ما مثلك يأتينا. ونحو هذا الكلام.
قال: فلما بِتُّ تلك الليلة، فتأملت في صفاتِه؛ فإذا بها صفات اللئيم التي نظرت إليها في كتب الفراسة!! قلت: وخاسرتاه ! هذه الرحلة لدراسة وقد أتاني أكرم الذي يوصف بأنه اللئيم!
قال: بتُّ أحسن ليلة، فلما أتى الصبح شكرتُه، أعظمت عليه الثناء، وركبتُ دابتي وقد قرَّبها إليَّ وأعانني على ركوبها.
يقول: فلما أردت المسيرَ، قلت له: يا فلان ! قد [أحسنتَ] إلينا أعظمَ إحسان، وفعلتَ وفعلتَ - وعدَّد فضائله -، فإذا أتيتَ مكة؛ فسَلْ عن محمد بن إدريس الشافعيِّ؛ فسأكافئك على ما صنعتَ بي مِن الإكرام.
قال: فنظر إلي نظرًا مغضبًا، وقال: يا هذا !! ما رأيتُ رجلا بوقاحَتِك ! أُكرمُكَ وأكرم دابتَك، وأنزِلُك في منزلي، وتجلس على فراشي، وأهيئ لك الطعام والشراب، وتقول لي هذا الكلام !!! أنقد لي كذا وكذا مِن الدراهم ! يقول: هذه الدراهم ما يأخذ إلا عُشر ما طلب. أنقد لي وإلا واللهِ لن تذهبَ، وسأفعل بك وأفعل. يقول:
فعظمتْ محبتي لكتب الفراسة. يقول: فاحتفظتُ بها، فأعطيته، وذهبت وأنا أذم فيه، وأنظر في كتب الفارسة.
هذا أثّر في الشافعي - هذا استطراد لتنشيط الإخوة - أثَّر في الشافعي؛ حتى إنه كان يسأل - رحمه الله تعالى - إذا أتى له خادمُه بطعام: ممن اشتريته ؟ صِفْ لي مَن اشتريتَ لي منه ؟ قال تلميذه الربيع قال: أتيتُه مرة بطعام، فقال: ما صفة مَن اشتريته منه ؟ قال: صِفتُه كذا وكذا، فقال: لن آكل، كلوه أنتم، أو أرموا به !! لماذا ؟ قال: هذه أبشع صِفة، آكله ؟!! أثّرت فيه مع أن ذلك ....
وهذه قصة فيها فوائد - يعني إيرادها فيه فوائد -:
أولا: ينبغي لك - أيها الطالب - في العلم أن تحرصَ على قراءة التراجم؛ لأن - الآن - ما شاء الله أول الكلام كان منكم مَن هو شارد وسارح ورايح في ألف واد!! لكن لمَّا بدأتُ القصة انشدَّتِ الأذهان! هذا في طبيعة الإنسان.
اقرأ التراجم؛ تراجم وسير العلماء، وسير الأولين؛ تَنشَط وتستجمّ للعلم؛ لأن العلم منه مُلَح ومنه عُقَد.
العُقد: غليظة صعبة، لكن مُلح العلم سهلة وتستلذ بها. لهذا كان الزهري وغيرُه من العلماء قال: هاتوا لنا مِن أخباركم، هاتوا لنا مِن أشعاركم؛ فإن للقلب إحماضة أو كما قال.
فلا بد مِن مطالعة التراجم لتنشط.
الثاني: أن تستفيد مِن هذه القصة ومِن أمثالها: أن العالم قد يكون ترى في ترجمته شيئًا غريبًا؛ لأنه بشر، والله جل وعلا بقدره وحكمته جعل في بعض العلماء أشياء مِن الصفات ليست هي صفات الكمال، لماذا ؟ ليبقى الكمال والاقتداء في النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يأتي أحد ينزّل العالِمَ منزلة النبيِّ! يأتي عالم ... تمامًا فِعله كفعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يمكن ! ويكون قصورا منه - العالم -؛ لكن القصور يكون بحكمةٍ من الله جل وعلا، وأمر كونيّ سير إليه لمصلحة أعظم، وهو أن لا يغلو الناس في أحد. لابد أن تجد شيئا غريبا. مَن هو الكامل ؟ مَن هو الذي يقتدى به ؟ هو العالم الرباني الذي يعلّم الناس الخير وينشر في الناس الهدى، ويعلّم الناس السنة .. ونحو ذلك.
أما الأشياء التي قد تكون في حياته؛ هذه لا تلتفت إليها؛ لأنه ما مِن أحد إلا وستجد عنده ما تجد، لو رأيت ترجمة مالك؛ وجدتَ فيها، لو رأيت أحمد؛ وجدتَ فيها، لو رأيت ترجمة أبي حنيفة؛ [وجدتَ] فيها؛ لكن الآن الناس مُجمِعون على الثناء على هؤلاء الأئمة الأربعة.
الإمام أبو حنيفة [ذُكر] في بعض الكتب منهم مَن كان في عصره مَن يلعن أبا حنيفة لبعض المسائل؛ ولكن استقر على الثناء عليه، وعلى أنه مِن العلماء وعلماء الفقه وأهل الاجتهاد .. إلى آخر ذلك.
فالعالم إذا قرأتَ في التراجم أفادك أنَّ أهل العلم في الأزمنة جميعًا لم يكونوا كامِلين؛ بل لا لا بدَّ مِن نقص، وهذا النقص لا تنسبه إليهم فقط، بل هو ابتلاء من الله جل وعلا؛ ليظهر كمال الكامل، وتظهر نصيحة الناصح، وليظهَرَ أن الاقتداء التام في الأنبياء. في المسألة يغلط يخالف الدليل، ويخالف السنة، يقول: لا أنا أظن كذا ..؛ يخالف الدليل .. يعني ابتلاء مِن الله جل وعلا، يظهر الاتباع لأنه يظهر المتبع أنه يتبع النبي - عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - .. [فيه] مصالح أخر.
من محاضرة (مفرغة): " الوصايا الجلية للاستفادة من الدروس العلمية "* للشيخ صالح آل الشيخ،